Wikipedia

Search results

Tuesday, August 20, 2019

التاريخ السري

يشير التاريخ السرَّاني للإنسانية – ألا وهو التاريخ الذي لا تطال أيدي المدرسيين من المؤرخين سجلاتِه – إلى وجود نواة أو "جذوة" من الحقيقة، تظهر وتختفي على كرِّ العصور وفقًا لإيقاع دوري تنتظمُه نواميس عليا، فتُعلَّم جهرًا لتهيمن على حضارة بأسرها وتطفو على سطحها تارة (كما في مصر القديمة والهند وبلاد الإغريق في عصرها الذهبي)، أو تُكتَم عن عامة الناس وتُعلَّم سرًّا للصفوة التي تصبو إليها طورًا. ولقد كانت تلك الجذوة أو الشعلة – تلك "العقيدة السرية"،[1] كما سمَّتها السيدة هيلينا بتروفنا بلافاتسكي – إبان الدور الذهبي من ماضي الإنسانية السحيق ملكًا لجميع الناس ولم تكن حكرًا على فئة دون فئة؛ لكن نزوع غالبية البشر، على إثر التفتُّح المطَّرد للمبدأ العقلي الأدنى أو الذهني mental principle، إلى الأنانية والأثرة، جعل المؤتَمَنين على تلك الشعلة من السادة الحكماء لا يسرُّون بالحقائق الجوهرية إلا لتلامذة مختارين، حقيقين باقتبالها وصونها عبر "المسارَرة" Initiation. ولقد صيغت هذه العقيدة–الأم صياغات متعددة؛ وبحسب أزمنة إعلانها وأمكنته كان التشديدُ على هذا الركن من أركانها أو ذاك. غير أن مبادئها الأساسية ظلت ثابتة عبر العصور، لم تطلها يدُ البِلى أو التحريف.

لقد أصرَّت السيدة بلافاتسكي – تلك المرأة الجسور التي جهرت بمبادئ الحكمة الأزلية تحت مصطلح ثيوصوفيا[2] theosophia – في تصريحاتها وكتاباتها كلَّ الإصرار على وحدة كلِّ الأديان في الجوهر والغاية، ونظرت إليها جميعًا بوصفها نتفًا مختلفة الأشكال والألوان من نور الحقيقة الإلهية الواحدة، فشبَّهتْ الثيوصوفيا بالشعاع الأبيض للضوء وكلَّ دين بلون من ألوان الموشور الستة (اللون النيلي درجة من درجات الزرقة). هنالك أديان عديدة حقًّا، لكن الدين الشامل واحد أبدًا: إنه دين الحكمة Wisdom Religion الذي يدعى كذلك في الأدبيات الثيوصوفية بـ"الفلسفة الباطنية" Esoteric Philosophy.[3] ويخبرنا كتاب العقيدة السرية (أضخم المؤلفات التي خلَّفتها السيدة بلافاتسكي وأهمُّها) بأن الفلسفة الباطنية تؤلِّف بين جميع الأديان فتجرِّد كلاً منها من ردائه الخارجي الظاهر وتبيِّن لنا أن جذر كلٍّ منها هو عينه جذر الأديان الأخرى. وهذا الجذر أو الأصل المشترك هو، كما أسلفنا، دين الحكمة الذي يضمُّ المعرفة المتراكمة عبر العصور بفضل آلاف الرائين والعارفين بالأسرار.[4] ونقرأ في الكتاب المذكور أن

العقيدة السرية كانت الديانة العالمية الانتشار في العالم القديم وما قبل التاريخي. وما تزال البراهين على انتشارها وسجلات تاريخها – وهي سلسلة كاملة من الوثائق تبيِّن طابعها ووجودها في البلدان جميعًا – كما وعلى تعاليم كبار نطسائها موجودة حتى الساعة في الأقبية السرية للمكتبات الخاصة بالأخوية الغيبية.

يُعرَف لُباب المعرفة هذا (أو "المنقول الغيبي" Occult Tradition) اليوم، إذن، باسم الثيوصوفيا؛ وهو يدعى "غيبيًّا" لا لأن أساتذته يهتمون بـ"الخوارق" وبالشعبذة، كما يحسب بعض السطحيين، بل لأنه يختص بما هو باطن مستور،[5] لا بما هو ظاهر جلي، من حيث إنه يتناول المسائل والقضايا المتعلقة بسيرورات الطبيعة ونواميسها الخفية، وبذلك يشتمل على العلم ويمضي شوطًا أبعد منه على طريق معرفة الحقيقة: فهو يتضمن دراسة المبادئ الإلهية الكبرى المهيمنة على الكون والمسيِّرة له التي يُصطلَح على تسمية معرفتها بـبرهما فِديا Brahma-Vidya (العلم الروحي أو الإلهي).[6] ولعل خير تعريف بالثيوصوفيا، من هذا المنظور، نجده في كتاب محيط الثيوصوفيا:[7]

الثيوصوفيا هي ذلك المحيط من المعرفة الممتد من ساحل من سواحل تطور الكائنات المُحِسِّة إلى آخر. ومع أنها في أعماقها التي لا يُسبَر غورُها تفسح لأعظم الأذهان مجالها الأوسع، فهي عند شواطئها من الضحالة بما لا يُغرِق فهم طفل. هي الحكمة عن الله عند الذين يؤمنون أنه الكل في الكل، وهي الحكمة عن الطبيعة عند المرء الذي يقبل التصريح الوارد في الكتاب بأن الظلمة تكتنف سرادقه. ومع كونها تتضمن بالاشتقاق كلمة الله، وبذلك قد تبدو مشتملة على الدين وحده، فإنها لا تهمل العلم أيضًا؛ ذلك لأنها علم العلوم، ولذا دُعِيت بدين الحكمة. فما من علم تام يغفل أيَّ قطاع من قطاعات الطبيعة، مرئيًّا أو غير مرئي؛ والدين، باستناده إلى الوحي المزعوم وحسب، وضربه كشحًا عن الأشياء وعن القوانين التي تنتظمُها، ليس إلا مجرد أضلولة وعدوًّا للتقدم وحاجزًا في سبيل سعي الإنسان نحو السعادة. أما الثيوصوفيا فهي، باشتمالها على العلم والدين جميعًا، دين علمي وعلم ديني.

لقد جرى الناس – وخصوصًا في الغرب – على عادة الخلط بين مصطلح الغيبيات Occultism (الأبعاد العملية التطبيقية للفلسفة الباطنية) وبين "الفنون الغيبية" Occult Arts التي تضم المِسْمِرية Mesmerism (التنويم المغناطيسي) والاستبصار Clairvoyance والجانب المادي الضحل من علم النجوم Astrology والكيمياء (القديمة) Alchemy إلخ. لكن هذا الالتباس المؤسف يزول متى علمنا أن العلم "الغيبي" Occult Science لا يمتُّ بصلة إلى السحر والخوارق – إن كان ثَمَّ حقًّا ما يخرق قوانين الطبيعة أصلاً! – مع أنه يشتمل على كافة المبادئ والأسس النظرية المنطقية لتفسير مثل هذه الظواهر، بل يتناول، بالدرجة الأولى، النواميس الكونية التي تحكم ظواهر الطبيعة، وبذلك يشكِّل، من وجهة نظر معاصرة، استطالة للعلم تمتد لتشمل كافة المبادئ المبطِّنة للكون القابل للرصد بأدوات العلم. العالِم الغيبي الحق عالم تجريبي بامتياز (كما يُستشَف من نصِّ دْجَدْجْ الذي أوردنا) لأنه، هو الآخر، يستهدف معرفة ما خَفِيَ من أسرار الطبيعة والكون؛ بيد أنه، بدلاً من أن يحصر نشاطه ومكتشفاته في العالم الجسماني (أي المادي)، فإنه ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كلاً عضويًّا شاسعًا ليس العالم الجسماني منه إلا النقاب أو القشر الخارجي. إن حقيقة العالِم الغيبي، مثلها كمثل حقيقة عالِم الفيزياء، تقبل التحقق منها أو البرهان عليها، لكن السبيل إلى ذلك مختلف بين الحقيقتين. فالعالِم الغيبي يدرك، بالكشف الروحي والوعي الصافي، أن العوالم غير المنظورة تنطوي على العوامل السببية لكلِّ الموجودات ولكلِّ ما يولِّد في دائرة الوجود الظاهر كلَّ ما يقبل الإدراك بالحواس.[8]

*

إن بدايات التعليم الغيبي، كما سبق وألمعنا، ليست مدوَّنة في التاريخ الذي بين أيدينا، لكننا نستطيع تكوين تصور عن مبلغ قِدَم دين الحكمة بالنهوض بدراسة معمَّقة لمؤلفات السيدة بلافاتسكي، فنتبيَّن أنه وصلنا بكامل نقائه دون أن يطرأ عليه أيُّ تعديل (اللهم إلا في "أسلوب" التعبير) بعد أن تناقلتْه الحضاراتُ واحدة بعد الأخرى كما تُتناقَل الشعلة الأولمبية.

يبتدئ ما وصلنا من السجلات المدونة في بلاد الكلدان وبابل وكنعان، ويُعتبَر ما بلغنا من أساطير سوريا وبلاد الرافدين من أغنى النصوص بالحقائق الباطنية، مغلَّفةً بنقاب كثيف من الرموز. وفي بلاد فارس كان زردشت، مؤسِّس ما يُعرف اليوم بالديانة الزردشتية أو الفارسية، من أكابر المعلِّمين الباطنيين الذين أنجبتهم الإنسانية. أما مصر فقد ظلت أهرامها وهياكلها "مستودعات" للتعليم إبان قرون طوال – ويقال إنها لا تزال.

وفي أوروبا تبنَّت الشعوب الكِلتية Celts وكهنتها الدرويد Druids، في زمن الرومان، هذا التعليم عندما أنيط بها حملُ المشعل. ويمكننا أن نجد ملامح من التعليم في القبَّالة qabbalah (التصوف الإسرائيلي)، ولاسيما في سفر الزَّاهر الذي ينطوي على سرَّانية الربانيين الحكماء. ولقد ظلت حضارة الصين، حتى يومنا هذا، موئلاً للعقائد الباطنية كما أعلنها معلِّموها الطاويون العظام، أمثال لاوتسِه وخوانغ تسِه وغيرهما. أما الهند، فقد بقيت المبادئ الغيبية آلاف السنين مزدهرة فيها ازدهارًا متواصلاً، يحمل ألويتها عمالقتها الروحيون، أمثال شنكراتشاريا وبَـتَـنْجلي والبوذا غَوْتاما،[9] إلى جانب مئات الحكماء والسرَّانيين العارفين.[10]

ولقد تشربت ثقافة اليونان القديمة مبادئ المنقول الباطني، حيث علَّمتْ عدةُ مدارس أسرار الروح للصفوة من تلامذتها. ففي بلاد الإغريق، وارثة حكمة مصر، كانت الفلسفة والعلم والدين تُعلَّم ككلٍّ واحد لا يتجزأ، وكان مريدو الأسرار الصغرى Lesser Mysteries في هياكل ذلفس وإلفسِس وساموثراكي وفي أكاديمية أفلاطون، وقبلئذٍ في مدرسة فيثاغوراس في كروتونا، يدرسون الرياضيات والفيزياء وعلم النجوم، إلى جانب التعاليم الخاصة بطبيعة الألوهة والفيض والكوسمولوجيا ونواميس الطبيعة والبنية الباطنية للإنسان. أما "صفوة الصفوة" منهم، المؤهَّلة لولوج الأسرار الكبرى Greater Mysteries، فكانت تركز جهودها على تفتيح ملكاتها وقواها الباطنة في سبيل التحقُّق بالمعرفة والحكمة عبر التأمل الباطني وغيره من الرياضات السرَّانية.

لقد كان فيثاغوراس وأفلاطون قطعًا من معلِّمي الأسرار. وبعد أفول الحضارة الإغريقية واصل الفلاسفة الإسكندرانيون، بمن فيهم أفلوطين والحكيمة الشهيدة هيباشيا، صون شعلة التعليم الذي كان في عهدة الإغريق وأغنوه بعبقريتهم التأليفية: فقد قام الأفلاطونيون والفيثاغوريون الجدد بمحاولة رائدة للتأليف بين التعاليم الإغريقية والمشرقية، ولاسيما تعاليم الهند، فجرى بفضلهم تلاقحٌ مثمر بين حكمة الهند، من جهة، وتعاليم شرق حوض المتوسط، من جهة ثانية. وفي حدود ما نعلم، كان أمُّونيوس ساكَّاس، الملقَّب بـ"تلميذ الآلهة" ومعلِّم أفلوطين، أول من استعمل مصطلح ثيوصوفيا theosophia للدلالة على المنقول الباطني؛ ففي القرن الثالث أسَّس هذا الفيلسوف ما يمكن تسميته بـ"المنهاج الثيوصوفي الاصطفائي" Eclectic Theosophical System الذي حاول من خلاله الجمع بين تعاليم المدارس الدينية والسرَّانية المزدهرة في زمانه في إطار مشترك أخلاقي ومعرفي – وهي غاية ليست ببعيدة عن غاية الثيوصوفيا المعاصرة التي تعتبر نفسها الوارثة الشرعية لتلك المحاولة الرائدة.[11]

من جهة أخرى، تصف مخطوطات البحر الميت المكتشَفة في العام 1947 "معلِّمًا للحق" تتلمذ في مدارس الأسرار الأسِّينية،[12] التي تذكر بعض المصادر أنها دخلت في تماس مع البوذية عن طريق الرهبان الذين أرسلهم الملك البوذي آشوكا مبشِّرين بالبوذية، وتعبِّر تعاليمها عن تفاعل التعاليم الإسرائيلية (وليس "اليهودية") المسيائية (المخلِّصية) مع الروح البوذية. وتؤكد المصادر التي بين أيدينا أن يسوع أمضى فترة من حياته بين ظهراني الأسِّينيين – وإن يكن افترق عنهم فيما بعد دون أن يتنكَّر لصحة تعاليمهم. وسواء صحَّ ذلك أم لم يصح، من المؤكد أن يسوع، بشهادة الإنجيليين، علَّم تلاميذه حقائق أعمق بكثير مما جهر به أمام عامة الناس الذين لم يكلِّمهم إلا بالأمثال.[13] وتُعتبَر الأناجيل (ولاسيما إنجيل يوحنا اللاهوتي) ورسائل القديسين بولس ويوحنا ورؤيا القديس يوحنا في بطمُس (نص مشبع بروح القبالة الإسرائيلية، لا يحتمل إلا تأويلاً رمزيًّا صرفًا) – ناهيكم عن بعض الأناجيل "المنحولة"، وبخاصة إنجيل توما الغنوصي[14] – نصوصًا سرَّانية حافلة بالتعاليم الباطنية التي يقصِّر المسيحيون – إلا أقلهم – في سبر بواطنها بفهم إشاراتها وتأويل رموزها. ولقد تبنَّى الغنوصيون – وهم تربة المسيحية الأولى في منطقتنا – ذلك التعليم الباطني، لكن الكنيسة "الرسمية" كافحتْهم بحملات منظمة.

أما الصوفية المسلمون والفلاسفة الإشراقيون فقد حملوا لواء التعليم الباطني إبان ازدهار الحضارة العربية. وحسبنا أن نذكر منهم الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي وابن سينا والسهروردي المقتول لكي نشعر بسموِّ الدرجة التي بلغها التعليم في عهدتهم.[15]

*

إن لمما لا يحتمل مجالاً للشك هو أن جميع مؤسِّسي الأديان العالمية علَّموا طرفًا من عقائد المنقول الباطني. وما تزال ملامح من هذا المنقول باقيةً في أديان العالم الحية جميعًا، على كونها مدفونة، في أغلب الأحيان، تحت ركام من الشرائع والشروح الحرفية. والواقع هو أن الغرب، من جانبه، قد حاد عن التعليم الباطني، راسمًا لنفسه مسارات كانت غريبة عنه أول الأمر، وظل على هذه الحال حتى أيام ليست ببعيدة. ويُعتبَر تدمير مكتبة الإسكندرية أحد العوامل الرئيسية التي تقف مباشرة من وراء ضياع هذه التعاليم أو كتمها. فقد كان ذلك الصرح الفكري والروحي العظيم يضم، فيما وصلنا، حوالى 700000 مجلد تحوي خلاصة الحكمة القديمة والتعاليم الفلسفية والسرَّانية التي ازدهرت في روما واليونان والشام ومصر والهند وفارس. لكن عددًا من غوغاء المسيحيين المتعصِّبين قاموا في العام 391 م، بتحريض من بعض السلطات الكنسية، بإحراق المعابد "الوثنية" في الإسكندرية وإتلاف عدد كبير من المؤلفات المخزونة في مكتباتها. وبذلك غاب عن العالم الغربي "مستودع الحكمة" (كما كانت مكتبة الإسكندرية تُسمَّى آنذاك)، وغاب بغيابه مصدر من أهم مصادر إلهام العالم المتوسِّطي.[16]

أما العامل الثاني، فهو انقطاع الاتصال بين الشرق والغرب. ويعود ذلك أساسًا إلى قطع "طريق الحرير" المارة بفارس وانتشار القرصنة البحرية التي قلَّصت إمكانيات السفر بحرًا. وأما العامل الثالث، فهو إحياء تعاليم أرسطوطاليس التي كرَّست منطق الثنائية وشقَّت لنفسها دربًا عريضة بلغت ذروتها مع مادية القرن التاسع عشر في الغرب ونظرته الآلتية الجامدة إلى العالم mechanistic world view. فعلى الرغم أن أرسطو كان من تلامذة أفلاطون فقد انشقَّ عن تعاليم معلِّمه، مشدِّدًا على عالم الحسِّ، على التجربة المعتمدة على الحواس وعلى النظرة التجزيئية إلى العالم.[17] وبوسعنا أن نقتفي أثر نشوء العلم الوضعي، التجريبي، صعودًا حتى تأثير المنطق الأرسطي على مفكِّري القرون الوسطى، ولاسيما ابن رشد وتوما الأكويني. ومع أننا لسنا هنا في صدد إنكار أن هذا المنحى كان، بحدِّ ذاته، إغناءً للثقافة الإنسانية، غير أنه جرى قطعًا على حساب النظرة "المثالية" الأشمل إلى الحياة والكون التي أخذ بها أفلاطون وغيره من أصحاب الخبرة الرؤيوية الباطنية من فلاسفة الإغريق.

*

كذا فقد دخل الغرب دورًا احتجبتْ فيه الحكمةُ عن أهله بنقاب سميك، وظل المجرى الرئيسي للثقافة، حتى حلول الربع الأخير من القرن التاسع عشر، منفصلاً عن التعليم الباطني انفصالاً يكاد يكون تامًّا. ومع ذلك فقد ظل هناك تنظيم حافظ بطرق سرية على شعلة هذا التعليم من الانطفاء – ونعني به جماعة وردة الصليب Rosa+Crucis التي ألهمت تنظيمات وأفرادًا من مختلف المشارب، كالكيميائيين الهرمسيين، والشعراء الجوالين Troubadours، وتنظيم "الأوفياء للمحبة" Fideli d’Amore (ومنهم دانتي)، والثيوصوفيين[18] (بالمعنى الحصري للمصطلح). وحتى عندما أعيد فتح الصلة مع الشرق لم تنفذ فلسفتُه الروحية إلى الغرب كاملة على الفور لأن النزعة الاستعمارية التي سادت الأمم الغربية ووهم تفوُّق العرق الأبيض حالا دونه والانفتاح الحقيقي على الكنوز الثقافية والروحية الماثلة أمامه وأخذها على محمل الجد.

لقد كان الفلاسفة والمفكرون الألمان، أمثال غوتِه وشوبنهاور وهيغل، من أوائل المتأثرين في الغرب بالفلسفة الشرقية. وفي الولايات المتحدة قام عدد من المفكرين المثاليين، في أوائل القرن التاسع عشر، أمثال رالف و. إمرسون والحركة "المتسامية" Transcendentalism، بدراسة بعض نصوص الحكمة الشرقية وإدخال شيء من روحها على الفكر والأدب الأمريكيين. إنما لا مراء أن الفضل في لمِّ شتات خطوط التعليم الباطني وحياكتها في نسيج واحد متَّسق، يستطيع الإنسان المعاصر أن يفيد منه نظريًّا وعمليًّا، يعود إلى السيدة الروسية هـ. ب. بلافاتسكي[19] وإلى الحركة الثيوصوفية التي أقلعت فعليًّا بعيد تأسيس الجمعية الثيوصوفية في العام 1875 على يدها ويد مريدها الكولونيل الأمريكي المتقاعد هـ. س. أولكوت[20] ورهط من المهتمين بالدراسات الباطنية، نذكر منهم بالأخص المحامي الشاب و. ك. دجدج،[21] ذلك الثيوصوفي الألمعي الذي يعود إليه الفضل في نمو الحركة الثيوصوفية وتنشيطها في الولايات المتحدة.



هيلينا ب. بلافاتسكي

لقد أعلنت السيدة بلافاتسكي مبادئ الحكمة الإلهية في وقت كان الغرب فيه غارقًا في مادية قاتلة؛ إذ كانت غالبية العلماء حينئذٍ تنظر إلى العالم بوصفه مكوَّنًا من ذرات دقيقة شبيهة بكرات لعبة البلياردو من المادة "الصماء" غير القابلة للانقسام والمرتبة ترتيبًا معينًا لتركيب الأشكال البادية للحواس؛ وكان الكون برمَّته في اعتقادهم عبارة عن صور متعددة لتجلِّي المادة وأشبه ما يكون بساعة ضخمة تواصل دورانها بمعزل عن أية فطنة توجِّهها. أما الطاقة التي تُمِدُّ البنى الحيوية بأسباب الحياة فكانت في نظرهم نتاجًا للتفاعلات بين مكوِّنات المادة نفسها؛ وأما ظهور الوعي فكان يُعزى إلى الصدفة والاتفاق المحض ويُعتبَر محصولاً ثانويًّا لتفاعلات المادة والطاقة اللتين تتكوَّن منهما الأجسام؛ وبذلك كان الفكر يُعَدُّ "مادة" يفرزها المخ على نحو ما تفرز الكبد الصفراء!



هنري س. أولكوت



وليم ك. دجدج

إلى جانب هذه النظرة المادية الإوالية إلى الكون كانت ثمة نظرة أخرى لا تقل عنها جمودًا، هي رؤية ضيقة تبنَّتْها الكنائس التقليدية المتمسِّكة بالحرف على حساب الروح، رؤية لا تتيح للإنسان أية بارقة أمل لشقِّ درب خلاصه بنفسه، وسبق لها أن حاربت الحكمة بإعدامها عددًا من المتنوِّرين، أمثال جيوردانو برونو، نظرًا لتنكُّرها للخبرة الروحية الشاملة التي حقَّقها يسوع وعلَّمها.

وبالإضافة إلى الفريقين السابقين – فريق العلماء الماديين وفريق المتديِّنين التقليديين – كان هناك فريق ثالث ظهر على الحلبة الاجتماعية للغرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، هو فريق "الأرواحيين" (من "الأرواحية"، Spiritualism بالإنكليزية أو spiritisme بالفرنسية)، الذين نادوا بإمكان قيام اتصال بين الأحياء و"أرواح" الموتى عن طريق "وسيط" medium والذين افتقرت آراؤهم الساذجة إلى أساس روحي وفلسفي قائم على خبرة داخلية أصيلة، الأمر الذي أدَّى بهم إلى التعرض لمخاطر شتى وانحرافات خطيرة.

وسط هذه الجملة الاجتماعية الصعبة جاءت الثيوصوفيا بأفكار ومفاهيم تؤلِّف بين العلم والدين والفلسفة – أفكار تشير إلى وجود مخطط كوني وغاية روحية من وراء وقائع العلم الوضعي، وتضخُّ في الدين والفلسفة عمقًا وفهمًا مستمَدَّين من الخبرة الداخلية، وتثبت بطلان الأساس النظري الذي أقام عليه الأرواحيون خبرتهم وتحذِّر من مخاطر الممارسات الأرواحية على الصحة البدنية والنفسية.

*

في القرن التاسع عشر أيضاُ بلغ المدُّ الاستعماري العسكري أوجه؛ إذ كانت الأمم الغربية المستعمِرة مشبعة بوهم تفوُّق العرق الأبيض وتستغل مستعمراتها بشريًّا واقتصاديًّا أبشع استغلال، محوِّلة إياها إلى سوق لتصريف الفائض من بضائعها، ماسخة ثقافاتها العريقة بما لا يدع لوخز الضمير مجالاً. فحتى العرقان النبيلان الصيني والهندي لم ينجوا من هذه النظرة الاستعلائية المخزية، مع عدم الاعتراف إلا بالنزر اليسير من فضلهما على ثقافة العالم. في هذا الجو غير الإنساني جهرت الثيوصوفيا بأول مبادئ الفلسفة الباطنية: أخوَّة البشرية قاطبة، ووحدة كلِّ العروق والأجناس في الروح والإنسانية، ودأبت على تعريف الغرب بالعقائد الفلسفية والروحية للشرق في محاولة منها لإجلاء قيمهما المشتركة والمنسجمة بعضها مع بعض نتيجة وحدة الحقيقة ووحدة الإنسان.[22]

No comments:

Post a Comment